الجمعة، 17 يونيو 2011

لقاء القدر


كان عازف عن كل شئ ، وكانت صورته أمام الناس كالقديس الذي لا تتغير صورته علي الإطلاق ، فهو أمام الناس جميعا كالتمثال أو اللوحة التي لا توجد بها أي خدوش أو أخطاء : لا في الشكل والهيئة ولا في حتى المضمون . لا يؤمن في حياته إلا بمبدأ : العمل فالعمل ولا شئ بعد ذلك ، حتى ولو كان هذا الشئ الحياة أو حتى الحب .
 وفي أحد الأيام طلب منه أن يأتي لحضور حفل زفافه - رغم علمه أن هذا الطلب مرفوض لا محالة - لكنه فوجد بترحيبه بالدعوة ووعده له بالحضور . كانت هذه مفاجأة ليس لصديقه فقط ، بل وله شخصيا ، فهو لم يصدق أن كلمة القبول خرجت منه فمه ، لكنه اضطر أن يفئ بالوعد لأن ذلك من مبادئ حياته .
وفي المساء ظهر في هيئة وكأنه هو صاحب الحفل وليس مدعوا ، ودهش كل من رآه علي تلك الهيئة - رغم أن المعروف عنه الشياكة والأناقة - لكنه هذا اليوم وهو في هيئة غير عادية .
ذهب إلي الحفل وكان حفلا صاخب وملئي بالناس الذي كانوا يعرفوه جميعا ولكنه لا يعرفهم ؛ لأن صيته وشهرته كانت معروفه في كل مكان . عند دخول إلي القاعة بدأ الجميع ينظرون إليه في شغف ودهشة ، ويتغامزون عليه ، ولكنه كان لا يكثر بأي منهم ، بل كان ينظر أمامه إلي الهدف الذي يسعي للوصول إليه ، وهو " كوشة العروسين " حيث أنه كان يعتبر كل شئ حتى ولو كان شئ بسيط .
وبعد أن هنأ العروسين اتجه إلي الجلوس علي أحدى الكراسي القريبة وجلس إلي جانب مجموعة من الأصدقاء الذين أخذوا يتضاحكون ويتجاذبون أطراف الحديث ، وفي أثناء ذلك كان يسترق بعض النظر إلي ما يحدث حوله .
وفجأة اصطدم بعينين جعلته يرتبك ، وكأنه أول مرة في حياته يري عيون ،وللوهلة الأولي لم يفهم تلك العيون ولغتها ، فلقد كان أصعب وأبعد شئ بالنسبة له أن يتكلم مع شخص من خلال عيونه ، ولكن هذه المرة مختلفة تمام الاختلاف ، بعد ثواني قليل أحس بتجاوب شديد بينه وبين تلك العيون ، أصبحت لغتها بالنسبة له شئ مألوف وكأنه يعرفها منذ نعومة أظافره .
بدأت تحدث عنه نفسها وعن حالها ، وهو يرد عليها بالحديث عن شخصيته وأفراحه وأحزانه ، وكيف أنه لم يجد من قبل من يحدثه عن شخصيته بهذه الثقة والاستفاضة التي لم يكن ليتحدث بها من قبل ، لقد أحس أنهما أنفصل معا عن هذا العالم المادي الصاخب إلي عالم آخر أشبه بعالم الحواديت والخيالات التي نسمح عنها في حكايات ألف ليلة وليلة .
حقا أنه يعيش ليلة لا مثيل لها ، مع العيون التي بها صفاء يكاد لا يمكن التميز بينه وبين صفاء السماء في الساعات الأولي لشروق الشمس . ما هذه النشوة التي يعيشها معا ، التي ارتفعت بهم عن كل شئ ، إنها لحظة لا يمكن وصفها أو حتى الشعور بها .
ما هذا ! هل هذا هو الحب ؟ هل هذا هو العشق الذي تتحاكي به الأشعار والروايات والشعراء ؟ لا يمكن التعبير ، لقد ذابا معا إلي أن شعر بالتوحد في كيان واحد لا يكاد أحداهما يفترق عن الآخر ، وقبل أن يتحدثا كلاهما يفهم المراد ، الخالق واحد أعلم بسرعة هذا التوحد ، لدرجة أنهما تنميان ألا تنتهي اللحظة ويقف الزمان عند ذلك الحد .
إنها المرة الأولي التي يتملكه هذا الشعور ويتسلل إلي جميع أعضائه ، إلا أنها اعترفت أنها تلك لم تكن الأولي التي يتسلل إليها هذه الشعور ، ولكنه لم يصل إلي تلك الدرجة ، لقد قالت العيون ذلك وهي تشعر بالأسف والحزن ، وكذا هو حتى كادا أن يبكيا معا في اللحظة ، ولكنه في الثانية الأخيرة غفر لها تلك الغلطة القديمة ؛ معللا ذلك بأن الحب يجعل الإنسان يسمو عن كل ما هو مادي حتى ولو كان هذا الشئ هو الحزن ، فبالحب نصل إلي أسمي درجات التسامح .
لقد كانت العيون طوال هذا الحديث الطويل معه تتلقي الأمور من صاحبتها ، نعم فلم يكن هو وحده يهم مع عيونها ، بل كانت هي أيضا تعيش نفس الحالة من الهيام والانفصال عن العالم الخارجي , لقد تقابلت القلوب قبل العيون التي توحدت معا تحت شعار " الحب من اجل الحب ، ولا شئ يعلو فوق صوت الحب " فبداخل مملكة الحب لابد من السمو والترفع عن كل شئ وأي شئ إلا الحب .
لقد حان موعد الرحيل ، أنه الوقت والزمن الذي يقطع كل شئ حتى نفسه ، ولكنه لا يوجد شئ بعض الآن سوف يمنعها عن بعضهما ، إن هذا هو القسم الأول الذي حلفت عليه القلوب والعيون ، فما جمعه الحب لا يفرقه شئ إلا الموت ، حتى ولو جاء الموت فسوف يكون حد لما هو مادي في الحب لينقلهما إلي العالم الحقيقي للحب .
كان لابد أن يمنع أحدهما تلك اللحظة البغيضة التي تقضي علي كل ما هو جميل ، لقد قرر أن يبادر بذلك ، واتجه صوب هدفه مباشرة - كما اعتاد أن يفعل دائما في كل شئ - حتى وصل إليها ، وبالرغم من أنه ظهر عليه التوتر الذي لم يعهد إليه من قبل ، إلا أنه واصل إصرار حتى وقف أمامها ، فنظرت إليه في حنان وتبسم ، فلم يملك إلا أن وجد نفسه ينحني أمامها ويقلب يديها قائلا :
  " إنه إذا كانت الحياة هي السبيل الذي يجعلني أشعر بوجودي بجانبك ، فإجعلني أموت حتى تكون حياتي هي السبيل الذي يجعلني أشعر فيه بالتوحد في ذاتك ، أحبك " .
                                                                           النهاية
                                                     The End         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق