الاثنين، 4 نوفمبر 2013

النشئ في خطر



النشئ في خطر
في كل أنحاء العالم الفقيرة كانت أو المتقدمة ، كانت ظروف المكان مؤاتية أو غير  مؤاتية يسعي الأطفال الصغار التأقلم مع الواقع والاستمتاع بأكبر قدر ممكن من خلال أبسط الإمكانيات المتوافرة لهم. وليس أدل علي ذلك من أن الأطفال في بلدنا يحاولون العيش مع أقل المتاح، فنجدهم يصنعون الكرة باستخدام الورق أو حتي باستخدام الجواب، أو حتي يقودهم الخيال الطفولي الواسع النقي من استخدام علب الكرتون أو الخشب المستعملة في صنع عربة لعب صغيرة يستقلها واحد ويجره الآخر باستخدام الحبال. أو حتي يقوم بتفكيك ما يمتلكه من ألعاب صغيرة في محاولة منه لاكتشاف كيف تدور تلك اللعبة.
  إن روح الابتكار ومحاولة البحث عن أصول الأشياء من أين كانت وإلي شئ ستصل هو السمة الطبيعة لحياة الطفولة التي قد تمد معه في بعض الحالات إلي مرحلة المراهقة، تلك السمة التي لا نسعي في كثير من الأحوال  إلي استغلالها لتحديد مصير هذا الطفل حتي نهاية حياته، فنعتبر علي سبيل المثل أن الحركة الزائدة التي تصدر عنه هي شقاوة في حاجة دائما إلي تقنين، وكذا كثرة الأسئلة التي قد تصدر منه عن أي شئ وكل شئ نصفها بالفضول الزائد الذي نقابله دائما إما بالتجاهل أو العقاب والتحذير من كثرة هذه الأسئلة، مع أننا لو أمعنا في دلالة ومغزي تلك الأسئلة لوجود مدي عمقها وضرورة بحثنا نحن عن إجابة لها.
  إننا في ظل ما نعيشه من تخبط سياسي طوال السنوات الثلاثة الماضية للأسف قمنا بإقحام الأطفال فيما نعيشه من تخبط، بدون وعي بأننا بذلك نضع المستقبل في خطر شديد. فإذا كنت ثورتنا ثارت ولم تهدأ لأن وجدنا الأخوان يستخدمون الأطفال الأيتام من دور الأيتام ومن ينتمون إلي الطبقات الفقيرة والمعدمة في رفع شعارات تندد بما يعتبرونه داخل عقولهم فقط بأنه إنقلاب، فنحن للأسف نخطئ جميعا نفس الخطأ بشكل مختلف، فإذا كان دورنا هو تعليم وزرع فكرة الوطنية بكل ما تحمل الجملة من معاني، فإن ذلك ليس معناه أن تفرض عليه رأيك أو جهة نظرك السياسي تجاه موقف معين وبخاصة إذا كان سنه لا يجعله يستوعب بشكل كامل مجريات الواقع السياسي ، صحيح من حقه أن يعرف كيف تسير الحياة من حوله ، ولكن من حقه أيضا أن يختار النهج الذي يؤمن به ويسير عليه.
   هناك فرق شاسع بين المظاهرات والاحتجاجات التي تخرج من الجامعات والمظاهرات التي تخرج عن مدارس الإبتدائي والإعدادى وحتي الثانوي، فهناك الكثير من الناس تغمرها سعادة كبيرة عندما تري مظاهرة يخرج بها مجموعة من طلابة المدارس تعبيرا عن هذا الرأي أو ذاك، دون نظر هؤلاء الكبار إلي تأثير وتداعيات ذلك علي المستقبل البعيد، فربما يتقابل من كانوا يقومون بهذه المظاهرات في  مراحلة لاحقة من حياتهم سواء كان ذلك في الجامعة أو العمل أو حتي يحدث ارتباط بين شخصين من هذين القطبين المنتافرين وذلك بعد مرور حقبة من الزمان علي تلك الأحداث وانتهاءها، فكيف سيسير التعامل بين الطرفين عندما يروي كلا منهما للآخر عن أمجاده في تلك التظاهرات؟، وكيف لنا ألا نفكر في وضع تلك الأطفال الصغار عندما ينضجوا فكريا واجتماعيا وثقافيا ليكتشف أن ما زُرع داخلهم منذ الصغر - بغض النظر عن أن هذا الفكر مع ذاك أو ذلك- هو مجرد وهم أو كذبة ليس لها أساس في الواقع، بل وكانت بسبب في الانهيار في أحد العصور؟
   إننا ليس من حقنا أن نعاقبك علي قناعاتك واعتقادات السياسية والفكرية؛ لأن ذلك جزء من حريتك الشخصية التي لا يشاركك فيها أحد، ولكن واجبنا يحتم علينا أن نقف لك عندما تحاول الزج واستغلال النشئ الصغير، براعم المستقبل في توصيل هذا الرأي لآخر، أو حتي إقناع ذلك النشئ بأن الفكرة التي تؤمن بها أنت هي الحق وما دون ذلك هو الباطل والظلال، فإذا كنا أخطاء في حضارنا فعلينا تدارك تلك الأخطاء في المستقبل؛ حتي لا نجد أنفسنا ووطننا في النهاية يسير في حلقة مغلقة لا تبدأ ولا تنتهي به إلي شئ، ولا نردد دائما :
" يبقي الوضع علي ما هو عليه "

الأحد، 3 نوفمبر 2013

كنت اعتبرُها صديقة

كنت اعتبرُها صديقة
  كنت
 منذ نعومة أظافرنا آرها صديقتي وأختي، ولماذا لا نكون كذلك وأمهاتنا منتميين إلي أصل واحد وكانا أقرب إلي التوأم ولم يفرقهما شئ، وإذا كان بيني وبينها فروق فهي مجرد فروق في الألقاب وكنيات العائلة التي ننحدر منها لا أكثر ولا أقل، وإن كان ذلك لا يمثل مانع يحول عن كوننا نصبح أصدقاء وأخوة.
  كنت أنظر إليها كقدوة ومثل أعلي لابد لي وأن أسير علي نفس خطواته في كل شئ، ولما لا فهي لدينا كل المؤهلات والتي تندرج تحت مقومات القدوة والمثل الأعلي، فلها من اللباقة مالم يتمتع به أحد في سنها الصغير، فيمكنها أن تتحدث في أي موضوع بحضور ذهني لا مثيل له، أما أنا فبالأحرى أتحدث في أتفه الأمور التي دائما لا تهم سوي عقلي وبتلعثم في مخارج الحروف ونطق الكلمات تجعلني عاجزة عن الوصول إلي مدارك الجميع. كما كانت تتقن العديد من اللغات بمهارة في الحوار والأداة ، حتي أنك إذا من طريقة حوارها تتخيل أنها تنتمي إلي جنسية اللغة التي تتحدثها.
       كنت أحاول التقرب إليها قدر ما استطيع، بالكلام والحديث عن كل ما مر بي في المدرسة طوال الأسبوع، وعن المدرسيين والحصص والمواد الدراسية، واتنظر أن تأتي إلي بيت العائلة الكبير نهاية كل أسبوع ، اتخيل كيف سيكون اللقاء بيني ويبني. بل إني كنت أسعي لبذل جهد مضاعف كي ألفت نظرها دائما إلي وتتجاذب معي أطراف الحديث والكلام كما تفعل مع الآخرين.
     كنت آري أن الفرق العمري بيني وبيني الذي ليس بالكبير ولا بالصغير هو البوابة السهلة للعبور إليها وكسب صداقتها وودها اللذان ليس بالأمر اليسير، فهي التي تختار دائما من يجلس بجوارها ومن يجلس في مقابلها علي طاولة الطعام رغم كبر حجم العائلة، إلا أن الجلوس إلي جانبها هو شرف كبير تنعم به الملكة الكبيرة - كما كنت أصفها دائما- علي رعايها الصغار، وتشرف بنفسها علي نوع الطعام الذين يختارونه الصغار، بل وطريقة تناولهم له.
    كنت أسعي إلي تقليدها في طريقة أكلها وشربها والأناقة التي تتمتع بها، وتسريحة شعرها الذي كان يختلف كليا عن طريقة وشكل تسريحة شعري، ولكني كنت اعتبر أن تقليدي الأعمي لها هو الطريق الوحيد كي أكون مثلها وأصل إلي نفس ما وصلت إليه من اهتمام ورعاية وتقرب من مجتمع الكبار.
   كنت كذلك لكنني لم أحاول تفسير هروبها المستمر مني وابتعدها عني واقتربها من الآخر بل ومحاولتها تجنبي، وعللت ذلك لنفسي المريضة أن السبب هو بعدي المتكرر عنها نتيجة ظروف سكننا ودراستنا، وأحيانا أخري كنت أنسي أن أجد سبب لذلك الجفاء والتجنب الذي أجده منها الذي يشبه تجنب المصاب بالوباء القاتلة خشية العدوء والموت وذلك دون التأكد في الأصل من وجود المرض من عدمه، فهي كانت تتخذ معي إجراء إحترازي، تتكلم من خلف الجدار العازل الذي كان يفرض علي الالتزام بالخط الذي يجب ألا أتعداه إلا بأوامر تصدر عنها وإلا كانت النهاية بالنفي النهائي.
   كنت فقط احتاج إلي بصيص من النور كي أري نظرتها الحقيقة لي التي أظهرت الأيام، الحقيقة التي لا تراها الطفلة حين تظل سنوات حياتها تعتقد أن القمر يسير معها أينما ذهبت ويرافقها وحدها لتكتشف في النهاية أنها هي التي كانت تتحرك ، أما القمر فلا يعدو أن يكون مجرد جسم معتم ساكن لا تمثل هي بالنسبة له أي شئ.
    كنت ومازال وسأظل في حياتها جسم معتم لا يمثل لها أي شئ، مجرد طقوس حياتية عائلة ثقيلة علي قلبها تضطر أي القيام بها بشكل روتيني بلا أي شعور أو إحساس به.
   فأنا دائما بالنسبة لها مجرد
                               لأ شئ       "صفر"

الثلاثاء، 4 يونيو 2013

انتهاك التراث



انتهاك التراث
    كلمة (فن) في اعتقادي الشخصي هي تعبير عن مكنون الإنسان الداخلي من مشاعر وأحاسيس، وذلك بغض النظر عن نوع هذا الإحساس سواء أكان فرح أو حزن، سعادة وبهجة أو إنطواء، فهناك من الناس من يحاول التعبير عن هذا المكنون الداخلي من خلال رسم تلك الحالة، أو عزف مقطوعة تنم عنها، أو ربما الرقص لإخراج طاقته المكبوته، لذا فنحن كثير من نجد أن نتاج تلك الحالة المختلفة مجموعة من الإبداعية الفنية التي خلدت اسم صاحبها علي مر التاريخ.
    إذا فالفن نتاج اللحظة المزاجية، وهذه الحالة عادة ما تؤثر فيها طبيعة العصر الذي يعيش فيه الفن، فمثلا عندما قال المتنبي في إحدى أبيات قصيدته :
   الخيل والليل والبيداء تعرفني                  والسيف والرمح والقرطاس والقلم
   بيت الشعر هنا دليل واضح علي ما كانت تتميز به البيئة في عصر المتنبي، وذلك من حيث البيئة الصحراوية التي يكثر بها الاهتمام بالخيل، وأدوات الحرب وهي السيف والرماح، وكثرة الشعراء من خلال ذكر الشاعر للقرطاس والقلم، لذا فهو من خلال تعبيره عن حالته النفس نجده يتناول أشهر ما كان يتميز به ذلك العصر.
   وإذا قرأت روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ مثل : "الثلاثية" علي سبيل المثل تجد أنها تتناول تفاصيل الحياة في ذلك العصر كنضال شباب الجامعات ضد احتلال البلاد وكيف كان يطمح كل شاب في نيل بلده الاستقلال التام حتي ولو دفع حياته ثمن لذلك المطلب، كما لم تغفل الرواية إلقاء الضوء علي سمات حياة المصريين الاجتماعية وحياة الأسرة المصرية بكل تفاصيل المأكل والمشرب وحتي الديكور والملابس التي كانت تتميز بها تلك الفترة، فذلك إنما يتناوله الكاتب في روايته تاركا شرح واضح ومفصل لذلك العصر، ومن يأتي بعد مرور السنوات لقراءة تلك الرواية فهو بذلك لا يقرأ أو يتمتع بأسلوب كاتب فحسب ، إنما يعيش في زمن الرواية نفسها بكل ما فيه من عادات وتقاليد وأعراف.
   فالفن هو مرآة العصر الذي كان فيه، تعيش من خلاله في أحداث الماضي دون أن تكون فيه، وبه تعرف شعوب الحاضر والمستقبل كيف كان من قبلهم، ونقيس تاريخ الشعوب وتقدمها بما قدمته من فكر وثقافة وآدب وإبداع وفن، وما يتركه من ميراث ثقافي هو ما يٌعرفوا به، وبعد كل ذلك يخرج علينا من يدعي ببساطة بأن الفن حرام؟! حرام إذا الشعر فهو فن، حرام القصص والأفكار التي تركها لنا الأسلاف الذين قضوا عمرهم في البحث والتذوق والتأليف، والفنون الشعبية حرام لأن الرقص في الأساس حرام وكمان الرقص الشعبي هو اختلاط بين الرجل والمرأة فهو حرام، لابد لنا بما أننا دولة إسلامية أن نقضي علي كل سبل الفجر والفحشاء التي أدت إلي انهيار أخلاق المجتمع وفساده، تلك البدع التي تم استيرادها من الغرب الذي ليس له دين ولا ملة، فما فائدة أن تقضي وقتك في مشاهدة الفن الخليع المسمي بالباليه الذي لا يدر علينا سواء مزيد من التدني والانحطاط في السلوك وانتشار الرذيلة ، ارحمونا يرحمكم الله.
   هذا هو الشعار المنتشر في وقتنا الحاضر، النهج الذي ينتهجه الأخوان واتباعهم ومن علي شاكلتهم الذي يرون بحرمة الفنون بكل أشكالها وأنواعها، بل ويضيعون وقت البلد الثمين الذي تحتاج كل دقيقة منه من أجل البناء في مناقشة حرمة فن الباليه وضرورة إلغائه، والقضاء علي التمثيل والغناء وكل تلك الأشياء التي كانت سببا في غضب الله علينا ووصولنا إلي تلك المرحلة من الانحدار الإيماني والأخلاقي.
   لقد تنبهت الحكومة ومسئوليها وأحزابها بأننا انتهينا من كل المحن والمصاعب التي تهدد أمن وسلامة
الوطن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وأصبحوا متفرغين لمشاكل الفن وحرمته. ليس معني كلامي هذا التشجيع علي الفن الفاسد الذي يخدش حياء المشاهد ويضر الذوق العام،لأننا للأسف تركنا الحبل علي الغارب، وبدلا من محاولة الانتخاب بين الصالح والطالح،أصبحنا نناقش في مجلس الشوري إلغاء فن الباليه دون أن يكون لدينا رقابة واعية علي دراسة وفهم لا حسب الأهواء والميول، ودون النظر إلي ما تقدمه القنوات من منكر مجاني ومتاح في كل الأوقات.
   إذا كنا نريد لهذا الشعب الفلاح والتقدم فلابد أن نضع كل شئ في نصابه الصحيح، فلا يمكننا أن نلغي الموسيقي أو الرقص الشعبي أو الباليه علي اعتبار أنها حرام، بل علينا أن نحاول دعم تلك الفنون علي أن تقدم بشكل راقي يناسب طبيعة وعادات مجتمعنا، نجعل الفن دائما عنوان يدل علينا عندما نقدمه أمام شعوب العالم أجمع، فهل لو حرمنا ومنعنا فنون الأوبرا والباليه والرقص الشعبي نكون بذ         لك قد قضينا علي عناصر الرذيلة في المجتمع، أم أننا من خلال المحافظة عليها ونشر وغيرها بشكل لائق اجتماعيا نكون به قد ساعدنا في الرقي النفسي والروحي والثقافي.
   علينا أن ننتبه ونعي جيدا بضرورة الحفاظ علي الموروث الفني الحقيقي وننميه وندعمه بكل ما نملك حتي لا نستيقظ في يوم ما ونجدنا قد أصبحنا بلا أي تراث...... أو فن........ أو ذوق......


الأربعاء، 29 مايو 2013

الوسطاء لا يمتنعون



الوسطاء لا يمتنعون
   الوسيط هو ربما يكون شئ أو شخص نستعين به للتواصل مع شخص آخر لتوضيح وجهة نظر معينة أو رؤية أو توصيل طلب أو رجاء إزاء موقف معين ، وهذا الوسيط - لو اعتبرناه شخص- يتم الاستعانة به علي اعتبار أنه همزة الوصل بين الطرفين، كما أنه يملك من رصيد الحب والمودة بين الطرفين ما يؤهله للقيام بفكرة التقارب.
  أو ربما يكون هذا الوسيط هو وسيط تجاري، وباللغة الشائعة بين المصريين "السمسار" الذي يتمتع بقدر من الموهبة والفطنة وربما بعض من المهارات في البيع والشراء يستطيع من خلالها تسويق السلع للمشتري، وإقناعه بمزاياها، في نهاية الصفقة يكون له مبلغ من المال "عمولة" من الطرفين مقابل تلك الخدمة، وقد أصبحت تلك العملية بمثابة عمل قائم بذاته تعمل به شركات وكيانات اقتصادية كبيرة في العديد من دول العالم.
   هذه هي الوساطة البشرية، فماذا عن الوساطة الربانية؟، بمعني آخر : هل يحتاج العبد وساطة أو وسيط بينه وبين خالقه سبحانه تعالي؟ فهل لابد من شخص يصل من خلاله شكوي العبد إلي ربه؟ أو بمعني أكثر وضوحا: هل أنت بحاجة إلي من تستخدمه وتستعين به للتقرب إلي الله؟
  منذ قديم العصور والأزمان كان هناك عباد صالحين آمنوا بما جاءت به رسل الله تعالي منذ القدم، وهؤلاء الصالحين كان الناس يحبوهم ويقلدوهم في طرق عبادتهم ، وبعد وفاتهم قرر الناس أن يقيموا تماثيل لهم تخليدا لذكراهم ، حتي يتذكرهم الناس دائما، ومع مرور الوقت بدأوا في زيارتهم تلك التماثيل ليتوسلوا إليهم في اعتبارهم وسيط بين الناس وربهم لقضاء حاجاتهم، ليزدادوا في ذلك بتقديم القرابين إلي تلك التماثيل في سبيل الدعاء والطلب والرجاء، لينتهي بهم الحال إلي عبادة تلك الأصنام بناء علي معتقدهم القائل في كتاب الله  (إنما نعبدهم ليقربونا إلي الله زلفي)، فهذا حال القرون الأولي التي كانت تعتبر أنه لابد من وجود وسيط للعبد عن طلبه أو رجائه إلي مولاه الأعلى.
  إلا أن الحال لا يختلف كثير عندنا في تلك الأيام عند الناس شتي، فكثير من الناس تسعي إلي الاستعانة بنفس الوسطة التي تقربه إلي الله تعالي ، وكأنه والعياذ بالله أن الله الذي خلق الإنسان يحتاج إلي عبد يوصل شكوي عبد إلي ربه، فنجد المقام والضريح لولي من أولياء الله الصالحين ممن عرف عنهم التقوى والورع وقوة صلته بربه لما كان يتمتع به هذا الشخص من زهد وإيمان ، وبعد وفاته يحول الناس مدفنه إلي ضريح يزوره الناس من كل صوب وحدب ليتمتعوا ببركاته ونفحاته، ويدعوه بأن يكون المدد والعون له علي قضاء الحاجات والتمتع بكامل الصحة ووفرة الرزق ..الخ، ولا مانع في ذلك من ندر الندور ، ونفس الشئ يتم العمل به عند أضرحة المشايخ وآل بيت رسول الكريم بداية من قرءاة الفاتحة لهم، مرورا بمسح الأيدي علي الضريح من الخارج لأخذ البركة منه، وما ينذره الداعي في حال تحقق مراده من إشعال الشموع ودبح الذبائح. كل ذلك إنما هو نتيجة للجهل الديني الذي يعيش فيه العديد من الناس ، وقد يتعلق هذا الجهل بفكرة كون الإنسان من المتعلمين أو الآميين، ولكنه نابع من عدم معرفة كافية بأصول وأسس ديننا الحنيف ،أو جهل بمعني الآية الكريمة التي تقول ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداعي إذا دعاني).
     كما أن هناك نوع آخر من الوسطاء الذين يتخذونهم الناس وسيلة في التقرب إلي الله، بل وإن كثير من الناس يعتبرون أنها السبيل الوحيد إليهم تعالي ، ألا وهي القنوات الفضائية الدينية في العموم، فبالأمس القريب وفي ظل
ما أصبح فيه من عصر السموات المفتوحة ظهرت لنا العديد من القنوات التي تطلق علي نفسها "دينية إسلامية"، تلك القنوات التي حملت علي عاتقها منذ الوهلة الأولي نشر وتعريف الناس بكل صغيرة وكبيرة في الإسلام، والتعمق في بواطن كل شئ في الدين، وذلك من خلال مجموعة ممن أطلقوا علي أنفسهم اصطلاح "شيوخ" متفقهين في كل أمور الدين، وبدأت الناس شيئا فشيئا في متابعة الشيخ فلان والشيخ علان الذين يساعدونا علي معرفة مالا نعرفه عن ديننا وسنن رسولنا، وتحول موعد برنامج الشيخ إلي موعد مقدس بالضبط كموعد الصلاة الذي لا يمكن تفويته أو السهو عنه، وكأن الناس بدأت تدرك فجأة أنهم مسلمون وأنهم لا يفقهون شئ عن دينهم، وأنه رغم كبر سنهم فإن ثقافتهم الدينية لا تساوي شئ، وأنهم كانوا لا يقيمون دين الله بالمعني الذي يتحدث عنه هؤلاء الشيوخ، رغم أنك لو نظرت إلي حياة هؤلاء الناس في مجملها تجد أنهم كانوا يقيمون شرع الله كما ينبغي أن يكون في مراعاة حرمات الله في كل صغيرة وكبيرة، وإقامة الصلوات وقيام الليل، والصيام والزكاة والقيام بكل ما أمر به الله في كتابه وفي سنة رسوله الكريم، والإمتناع عن كل النواهي.
    ولكن للأسف الشديد لغي هؤلاء الناس كل ما مضي في حياتهم السابقة، نسوا كل ما تربوا عليه من الأخلاق الحميدة التي جاءت في الأصل من أوامر الإسلام، والتي كما ذكرت أنهم كانوا يطبقوها بحذافيرها بالفطرة التي خلقهم الله بها وبالتربية السليمة المتناقلة من جيل إلي جيل بنفس الفطرة، ونسي نفس الأشخاص - وبالأخص المتعلمين منهم - أن حصة التربية الدينية وكتابها ومُدرسها جميعهم كان له تأثير كبير في تكوين ثقافته الدينية التي فرقت له بين الخير والشر، الصالح والطالح، المعروف والمنكر، تلك الأشياء التي ليست شئ مستحدث خرج به علينا هؤلاء المشايخ، أو كنز ساعدونا في الوصول إليه، فدائما اتسشعر في كلمهم وطريقة وعظهم للناس وكأنهم  هم - والعياذ بالله - هم من آتوا أو استحدثوا قواعد وآدبيات ديننا.
     ولا يجب أن نغفل بالدور الذي يحاول هؤلاء الشيوخ القيام به فيما يسميه البعض بـ "محاكم التفتيش" أو ما يطلق عليه قساوسة الفضائيات الدينية بـ "الواجب"، فتجد أنه عقب انتهاء الشيخ من درسه وقبل ختامه للحلقة يذكر المشاهد بأن عليه واجب لابد ألا ينساه وهو قيام الليل مثلا، أو يذكر المشاهد بأن الغد هو يوم الاثنين أو الخميس وعليه أن يستعد لصيامهم أسوة بالرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم)، وكذا الحال بالنسبة للثالث والرابع والخامس عشر منتصف الشهر العربي، وأكثر ما لفت انتباهي في ذلك الأمر الطريقة التي يأمر بها المشاهد وكأنه هذا المشاهد لا يعي فضل هذه الأيام، أو أنه يحتاج إلي إرشاد وتوجيه بل وإلحاح كالطالب الذي يأمره أستاذه بعمل واجبه ويشدد عليه لدرجة تشعرك بأنه هو من سيحاسبك علي ذلك وليس ربكم الأعلي.
     وفوق هذا وذلك نجد أن كثير من تلك البرامج علي هذه الشاشات الدينية قد تحولت إلي ساحات سياسية تسعي إلي استخدام مفهوم الدين وآيات القرآن في خدمة أغراض سياسية، فمثلا خلال متابعتي لإحدى هذه القنوات وجدت أنها أثناء وجود استفتاءات دستورية كانت تقوم بعمل حلقات مباشرة تجمع فيها كل الشيوخ التي يتابعها الناس علي تلك القنوات في جلسة تستمر لساعات متأخرة من الليل، ويتلخص محور النقاش كله حول قول شئ واحد وهو إقناع الناس بضرورة التصويت "بنعم"، وذلك بناءا علي أن نعم في المقام الأول هي لله وللدين والشريعة والوطن في آخر الأولويات بالطبع، الأمر الذي يجعل نستنتج في النهاية لماذا تكتسح نعم في جميع الاستفتاءات.
    آخيرا ولن يكون آخر المطاف لابد أن يعلم هؤلاء الذي نصبوا أنفسهم أوصياء علي الدين وآمرين للناس أن الوحي قد انقطع بموت آخر وختام المرسلين محمد (صلي الله عليه وسلم)، وأن الله تعالي يقول (فاسئلوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون)، فإن وظيفتكم في ذلك المقام هو إرشاد الناس إلي ما هو مبهم بالنسبة لهم، وتسير وتبسيط شرح الآيات والأحاديث، لكنها لم تذكر أبدا أن علي بني البشر إتباعكم بعيون مغلقة وقلوب تطيع بلا إمعان للعقل فيما تقولون، فإذا كان الخالق القادر قد أمر بالتدبير في خلقه وآياته، فهل يأتي عبد ويأمر عبد مثله بالإمتثال لوامره دون عقل أو تفكير ( أفلا يتدبرون) ، ( أفلا يعقلون).