هيبة اللغة
اعترف أنني واحد من ملايين الناس ممن ضيعوا هيبة اللغة ووقارها، وذلك عندما
أجد نفسي منساقة إلي استعمال مرادفات غير عربية، أو ما تعريب كلمة أجنبية، أو
تحويل الكلمات العربية النطق إلي انجليزية الكتابة. وهذا إن كان ليدل علي شئ ، فإنه
يشير إلي مدي ضحالة واضمحلال معرفتنا بلغتنا الأولي والأصلية.
فنحن أهملنا – وللأسف الشديدـ دراسة وتعلم لغة بلدنا وديننا ونبينا، فلا
نجد مثلا من يسعي للبحث عن أخذ دورات تدريبية في لغنتا الأساسية، بل أننا نولي كل
اهتمامتنا وجل اعتبارتنا للغات الآخرى، وأنا بذلك لا أقلل من شأن تعلم ودراسة هذه
اللغات، فالحكمة تقول ( من عرف لغة قوم آمن مكرهم)، ولكننا بحاجة شديدة أن يكون
لنا نفس الاهتمام باللغة العربية، فهي بحاجة إلي نفس التعمق والتثقف في جوانبها
المختلفة.
ونتيجة ذلك الإهمال أصبح لدينا طلبة جامعات وخريجي مؤهلات عالية ليس لديهم
أي مؤهلة لكتابة أو لقراءة جملة عربية صحيحة نحويا ولغويا، لم تعد مشكلة الطلاب في
كتابة الهمزة علي الألف أو علي السطر أو علي نبرة ، بل أصبحت المشكلة في طريقة نطق
الكلمة نطقا عريباً صحيحاً، وتحويلها إلي كتابة صحيحة، فلقد اشتكي الكثير من
أساتذة الجامعة من دنو ثقافة الجيل الحديث باللغة ، حتي أنه في أثناء تصحيح أحد
أساتذتي بالجامعة لأوراق الامتحان وجد بعض الطلاب قد أخطئت في كتابر كلمات بسيطة
مثل : أنه وجد كلمة (لكن) مكتوبة هكذا (لاكن)، وكلمة (القرابين) مكتوبة هكذا
(الكرابين)، وكأنهم عندما كانوا يقرأوا كتب وملزم المذاكرة كانوا يقرأون بأذانهم
وليس بأعينهم . بل أن بعض من الأساتذة أكدوا لنا أنهم صادفوا في كثير من إجابات
الامتحان عدم إهتمام بعض الطلاب بوضع نقط الحروف في المكان الصحيح، وقد نسي البعض
وضعها من الأساس، ناهيك عن عدم الإهتمام بوضوع الهمزة ، وعلامات الترقيم التي كنا
نتعلمها في دروس الصف الرابع الإبتدائي سابقا - إن لم أكن نسيت – مثل الفصلة
والفصلة المنقوطة، وبين الأقواس وشرطة الجملة الإعتراضية والتنوين بأنواعه الثلاث...
إلي غير ذلك مما ذهب وضاع أدراج الرياح.
إن
المشكلة أصبحت تتفاقم بشكل جعل بعض من المحللين وأساتذة علم النفس والاجتماع
يتوقعون بإندثار اللغة قريبا بعد جيل أو جيلين من الآن، وأرجعوا ذلك إلي عوامل
كثيرة، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر: إهمال حصة الخط العربي وكراسة الخط ،
فبالرغم من أننا كثيرا كنا لا نهتم ونضجر بإصرار المدرس علي الكتابة في كراسة الخط
من خلال خطي النسخ والرقعة، والتشديد الكامل علي ضرورة التآني في رسم وليس كتابة
كل حرف من حروف الكلمة وطريفة كتابته وهمزاته ونقاطه، وكذلك الاهتمام بجمال ما
نكتبه بالرقعة والنسخ؛ حتي تنطبع في أذهاننا رسم الحرف وشكل الكلمة ككل، إلا أننا
كنا جميعا نكتب في معظم الأوقات في
كراسة الخط ملأ للفراغ وتأدية للغرض، ولم نكن
نهتم أيضا بجمال الذي نكتبه في تلك السطور البسيط بداخل الكراسة، الأمر الذي أدي
بنا في النهاية إلي تلك المرحلة المأسوية التي وصلنا إليها في التعامل مع لغتنا.
كذلك فإن من أكثر الأمور التي أدت إلي ما نعيش
فيه من عصر التشويش اللغوية عدم الاهتمام بالقراءة لعملاقة وكبار كُتاب الأدب والشعر
العربي، إضافة إلي كبار المؤلفين في مجموعة الموضوعيات التي تتناول الفقه والدين
والتاريخ والعلوم المختلفة، فنادراً ما تجد من يحفظ " ألفية ابن مالك "
من غير الأزهريين، أو يفهم أحد معاني وطريق نطق كلمات في قصيدة للمتنبي أو أبو
العلاء المعرى أو أمير الشعراء أحمد شوقي، أو أن يعرف أصلا من هؤلاء أو غيرهم من
سادة اللغة العربية، أو أن يكون علي يعرف دور سيبوه أو أن أبي الأسود الدؤلي هو
واضع علم النحو وأسهم في وضع النقط فوق الحروف في المصحف الشريف، أي أنه قبل عهد
الدؤلي
كانوا يقرأون الحروف دون نقاطها.
علينا
أن نغفل أحد الأسباب المهمة التي أري أنها ساهمت في تدهور اللغة من حيث النطق
والكلام أو حتي في التعامل معها في اللغة اليومية ألا وهو الإعلام، وإنني لا أخص
في ذلك الصحافة والجرائد اليومية التي ربما هي التي تهم بجزء ما في الحفاظ علي
التراث اللغوي، ولكني أخص في ذلك الإعلام المرئي، فقلما نجد من يتحدوثون فيه
باللغة العربية الصحيحية اللهم إلا النشرات الإخبارية فقط التي تتكلم في معظمها
باللغة العربية الفصحي ،رغم وجود بعض الإرهاصات والأخطاء التي يحاول مذيعو النشرات
التقليل منها، أما فيما ماعداهم فنحن في سيرك لغوي نحوي هجائي لا يعرف للعربية
الأصلية معني في كلامه، بل وأنني لاحظت في كثير من اللقاءات التلفازية إجبار
المذيع للضيف - عندما يكون هذا الضيف من الأدباء أو النخبة المثقفة الذي يتقن
اللغة كما ينبغي الإتقان- يجبره المذيع علي التحدث باللغة العامية حتي يتسني لرجل
الشارع البسيط الغير مثقف أو متعلم أن يفهم ويستوعب العبارات بسهولة، وفي هذا
الإطار بالذات أنا اوجه السؤال لكل محاور وإعلامي: حتي وأن كل معظم متابعيك
ومشاهديك من الفئات الكادحة متوسطة المستوي التعليمي أو من الأميين عليك أن تسعي
إلي رفع ثقافتهم العربية اللغوية، فدائما من هو في مستوي ثقافي أعلي علينا أن
يحاول جاهداُ أن يرتقي ويرفع الناس إلي ما هو أعلي لا أن يأخذهم ويهوى بهم في
براثن الجهل.
علينا جميع أن نستيقظ إلي ما يحيط بنا من محاولات طمس الهوية العربية، إلا
أنني أظن أنها ليس محاولات خارجية ،إنما هي مما كسبت أيدينا نحن، حتي وأن كانت أصل
تلك المحاولات اختراع خارجي، فإنني أظن أننا تفوقنا علي المؤامرة الأصلية، فنحن من
فرطنا في هويتنا واستبدلنا لغتنا المتأصلة الجذور ببعض من أشباه اللغة وأشباه
الكلام الذي ليس عبث اختلقناه لنمحي به ماضينا ونقضي علي المستقبل، فاللغة هي
الأساس ، ومن بلا أساس تقتلعه الرياح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق